كتب وروايات

ملخص رواية الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي

من أجمل روايات الأدب العالمي، ناقشت رواية الجريمة والعقاب فيودور دوستويفيسكي، الحرب على الهويات الثقافية واستعرضت تأثير العولمة والانفتاح الثقافي على المجتمعات، واستطاع المؤلف أن يتنبأ بما يمكن أن تفعله العولمة الفكرية على العالم والتأثيرات السلبية الناتجة عنها، كما تناول المؤلف العديد من قضايا العصر قدمها من خلال شخصية البطل، راسكولينكوف، الذي يواجه أشكال العولمة التي ظهرت بشكل واضح على الاقتصاد وثقافة المجتمعات الداخلية، حيث يضرب بالتغيرات داخل المجتمع الروسي نموذجاً لهذه التأثيرات خاصة بعد الاستعمار الفرنسي لروسيا وما ترتب عليه من إحداث حالة من التوتر بين المجتمع والأفراد.

تناول مؤلف رواية الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي، بشكل رئيسي التفكك الاجتماعي، والاغتراب النفسي الذي قد يقع فيه الأفراد نتيجة للتحولات الثقافية السريعة، كان الكاتب له بعد نظر واضح لما قد يحدث في المستقبل فيما يخص الهوية القومية للبلاد أو تطور شكل العنف داخل المجتمعات، تتماشى رؤية المؤلف داخل الرواية الروسية إلى المغتربين فكرياً الذين انضموا إلى الجماعات الإرهابية مثل داعش، لأنهم تخلفوا عن تطورات وحداثة المجتمع ثم اعتقدوا أفكار تكفيرية إرهابية.

مخلص الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي

يعتبر راسكولينكوف، هو بطل رواية الجريمة والعقاب، ومعنى اسمه في اللغة الروسية الرسمية “المنفصم” أما الشرح التفصيلي لمعنى الاسم هو الشخصية التي تعاني من التمدن الوهمي والحداثة الكاذبة، وأصبحت واحدة من ضحايا تفكيك المجتمعات.

تبدأ القصة مع بطل الرواية من بوابة كلية الحقوق في إحدى جامعات روسيا، حيث يدرس بأحد الصفوف هناك، وفي قرية صغيرة تعيش والدته برفقة شقيقته هناك يعملان حتى يتمكنا من توفير احتياجات الابن طالب الحقوق، لا يتحدث عن تلك الظروف المادية الصعبة التي تعيش فيها أسرته، لكن يمكن للقارئ أن يفسر ذلك من حديثه وهذه الظروف كانت نتيجة الأعباء الاقتصادية التي سقطت على كاهل الطبقة المتوسطة في روسيا وأضعفتها وتسببت في فقرها، بعد أن يتم تنفيذ النظام الليبرالي على الاقتصاد والسوق، مما يترتب عليه توقف الأسرة عن مساعدة الابن في دراسته وعدم إرسال المصروفات الدراسية له لذلك يتوقف الابن عن الدراسة بالجامعة.

بداية الرواية وشخصية راسكولينكوف

شخصية راسكولينكوف في الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي
شخصية راسكولينكوف

في روايات دوستويفسكي تبدأ رواية الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي بوصف الحالة النفسية السيئة التي كان عليها راسكولينكوف، والتي بموجب ما ظهر عليه من عصبية وتوتر ربما تكون حالة مقبلة على الوقوع في مرض الكآبة، كذلك أصبح الشاب يعتاد العزلة ينفق وقته كله في وحدته لا يرغب في لقاء أحد، وكل ذلك بسبب حالة الفقر التي كان يعيش فيها والتي تسببت في حرمانه من دراسته الجامعية، وكلما استمرت أوضاع مدينته الاقتصادية في التردي كلما تطورت حالته إلى الأسوأ، وكلما أحس بالغربة والشرود الذهني، ويغلب على المدينة صورة الظلم الذي يجعلها قذرة حيث يتجول السكارى في شوارعها كل الأوقات ليلاً ونهاراً، كما تنتشر فتيات الليل بها طمعاً في الحصول على المال، وتمثل هذه الصورة نموذجاً مصغراً للمجتمع كله والظلم الذي نجم عن تطبيق السياسات الليبرالية ومبادئ النظام العالمي الجديد في سياسات الدول، ذلك الذي أوجد لدى الشاب عزلة ونفور حتى من المدينة التي نشأ فيها.

في هذه الرواية الروسية، تسيطر على هذا الشاب الجامعي مجموعة من التساؤلات والاستفسارات الغريبة، والتي لا تخرج إلا من شخص ولد بداخله الكره للمجتمع، وفي نفس الوقت يعرف الشاب أمر امرأة عجوز، تقرض الناس المال وتأخذ فوائد مالية منهم، يشتغل غيظاً من هذه المرأة ويفكر بشكل متكرر في قتلها.

كيف نشأت سياسات الهوية والعنف؟

غلب على الطالب الجامعي أوجاع ذاته المجروحة، التي نتجت عن وضعه الاجتماعي والاقتصادي وحالته النفسية السيئة إذ ما الذي يفسر رغبته في قتل المرأة العجوز؟ لا شيء لعدم وجود أي عداء بينهما، ولا يوجد لدى الشخص نفسه أي دوافع داخلية تجعله يرغب في ارتكاب جريمة قتل، لكن ربما ظن هذا الطالب أن إراقة الدماء سوف تجعله قادراً على استعادة كرامته المفقودة، ربما فعل مثل هذا يجعله قادراً على إثبات ذاته، إذ كان الشعب يشعر دائماً أنه شخص منبوذ من قبل المجتمع، لا أحد يعترف بدوره أو وجوده، المجتمع الذي يعيش فيه لا يعترف إلا بالعظماء والأثرياء فقط، ليس له مكان في مجتمعه وبعيد عن كل شيء، أصبح كل ما يشغله هو إثبات ذاته ودفع المجتمع إلى الاعتراف به، كل هذا دفعه إلى التفكير في ارتكاب الجريمة.

هل القتل يصنع العظماء؟

أوضح الكاتب دوستويفسكي من خلال الرواية العالمية نظرية غريبة ربما تكون منطقية وتناسب تماماً المجتمع الذي عاشوا فيه فترة كتابة هذا العمل الأدبي الروائي، إذ حاول الكاتب أن يصل بالبطل إلى نجاح بعض الرجال وقدرتهم في اكتساب السلطة والشهرة والثروة هي تخطي الحواجز، وقتل أي شيء يقف أمام أهدافهم وطموحاتهم، حتى لو كان ذلك الشيء هو قتل الإنسان نفسه، كل ما يهمهم هو إزالة العثرات والعقبات التي يمكن أن تقابلهم خلال رحلتهم، وبالطبع رغبة الطالب الجامعي اليائس من الحياة هي أن يصبح رجل عظيماً، وهذه الجزئية بالتحديد جعلت العمل الأدبي الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي، ذات قيمة إبداعية.

يقرر راسكولينكوف في الرواية الروسية، الانصياع إلى رغبته ويضع قدراته في اختبار صعب، وهو الاتجاه إلى مسكن المرأة العجوز، ومتى وقف أمام عتبة المنزل تراجع بسبب الخوف، يشعر بحالة من الاستياء؛ مما فكر فيه غاضباً من نفسه على ما كان سيفعله، ثم ينصرف عائداً من جديد إلى منزله وهناك تصله رسالة من والدته تخبره فيها أن رجل أعمال ثري يريد الزواج من شقيقته، وقد وافقت الأم على طلبه؛ لأن الرجل كان شديد الانتظار يريد الإجابة في أسرع وقت، استخدم الكاتب شخصية لتشين، رجل الأعمال الثري، رمزاً يعبر عن وحشية النظام الرأسمالي، إذ استغل هذا الرجل فقر العائلة وظروفها السيئة وطلب الزواج من ابنتهم حتى تظل هذه الفتاة مدينة له طوال حياته.

شعر الطالب الجامعي، بنوع من الإهانة في عرض الزواج الذي جاء إلى شقيقته وحالة من الذل؛ مما ترتب عليه شعوره بالنقص وبحالة سيئة إلى أبعد ما يكون آلت به هو وعائلته، أحس أن شقيقته مجرد سلعة تباع وتشترى، ازداد كرهه للمجتمع وغضبه عليه مما جعله يعود من جديد يفكر في جريمة القتل التي تراجع عنها قبل قراءة الرسالة.

كيف ظهرت سيكولوجيا الجريمة والعقاب؟

الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي
الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي

ارتكب راسكولينكوف، الجريمة، دخل على إثرها نوبة من الذعر والرعب، تمتلكه الإضرابات النفسية، سيطرت على عقله الهواجس وزحام الكوابيس، وأصبح عاجزاً عن تحمل جريمته، وأن العقاب قادم، ثم يخيب ظنه في الوصول إلى مرحلة العظمة التي كان ينتظرها بعد قتله للمرأة العجوز، يجد نفسه موضع احتقار وكراهية، فلم يصبح مثل نابليون بونابرت، بعد جريمته، وفي نفس الوقت يدين نفسه على ما فعله تغلب عليه مشاعر الندم ويحاول أن يهون على نفسه فعلته.

العقاب النفسي في الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي

أصبح يعيش الطالب الجامعي، لحظات العقاب النفسي القاسية التي يمكن أن تكون أصعب من العقاب التقليدي سواء الإعدام أو السجن، إذ يتخيل العجوز وهي غارقة في الدماء في كل وقت، ويسأل نفسه دائماً: أهل هذا هو العقاب؟ أصبح الشاب يعيش أوجاعاً داخلية قد تأخذه إلى السقوط في الجنون.

نجح المؤلف في هذه الرواية العالمية في عرض الحالة النفسية التي سيطرت على الشاب وفق براعة تصور ووصف شديدة، إذ انتقل من حالة الرعب إلى الهلوسات والهذيان، فقد وصل الشاب إلى مرحلة أن الجميع يعرفون أمره وكشفوا جريمته، هذا الشعور الذي يلاحقه في كل مكان، ويطارده أينما ذهب مما يجعله بالتأكيد يفكر في التخلص من تلك المخاوف عن طريق الاعتراف بالجريمة التي فعلها، إذ يرى في العقاب فرصة للتخلص من مخاوفه الداخلية، قد يكون الاعتراف حلاً، لكنه بالتأكيد ليس حلاً كافياً، بل يجب أن يخرج من حالة الاعتزال التي يعيش فيها وحيداً مفارق الجميع، وأن يعود إلى هويته الأساسية وأن يعود إلى الإيمان بعقيدته الدينية، وحتى تصل إلى هنا تبدو لك رواية الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي، واضحة ومفهومة بشكل أكبر.

كيف كانت نهاية راسكولينكوف؟

بعد ارتكاب راسكولينكوف، جريمة القتل، وأخذ يعيش في حالة نفسية سيئة يتعرف على فتاة روسية تدعى سونيا، والتي قدمها الكاتب رمز الأصالة الروسية، بالرغم من عملها في البغاء، الذي تم الزج بها إليه بأمر من زوجة أبيها، وحتى تتمكن من الإنفاق على أشقائها، لكنها تؤمن كل الإيمان بأصالتها حتى لو كانت تمارس الرذيلة، يخبرها الشاب بما فعل ويعلن لها عن رغبته في تسليم نفسه للقضاء وتهديه الفتاة صليباً، وهنا يرمز الصليب إلى وهو رمزاً الخلاص في الديانة المسيحية، سونيا، دفعته إلى تسليم نفسه والاعتراف بجريمته وتنصحه بالتمسك بالكتاب المقدس، وتحاول أن تشرح له أن الوصول إلى الخلاص في المسيحية لن يأتي إلا من خلال التطهر من الجريمة التي قام بها، وهذه الفكرة أخذها الكاتب من كتاب اللاهوت المسيحي.

يذهب الشاب، إلى تسليم نفسه، ومعه الصليب الذي يدل على رغبته في الوصول إلى الخلاص، وأيضاً الصليب بالنسبة للمسيحيين يعبر عن التضحية مثلما حدث مع النبي عيسى الذي قرر التضحية بنفسه من أجل غفران خطايا البشر حسب الدين المسيحي، وهنا أيضاً تقرر سونيا، أن تضحي بنفسها من أجل ذلك الشاب الذي أعجبت به وتذهب خلفه إلى المنفى التي تم نفيه إليها عقاباً على جريمته وتحاول سونيا، أن تجعله يؤمن بالحياة من جديد، وهذه نقطة فاصلة في رواية الجريمة والعقاب فيودور دوستويفسكي.

تنجح سونيا، في إقامة حالة من التصالح بين راسكولينكوف، وبين إيمانه بالمسيحية، مما يجعلها تنتقل إلى مرحلة جديدة، وهي تصالح الشاب مع هويته القومية، وطريقة التصالح التي تقترحها عليه هي الذهاب لأحد الميادين في روسيا، وهناك يمد يديه إلى الناس، ويصافحهم ثم يضع وجهه على الأرض ويقوم بتقبيلها ويبدي بذلك اعتذاراً واضحاً لها، ثم يصرخ في جموع الناس بجملة “أنا قاتل” وفي هذه النقطة بالتحديد يحاول الكاتب أن يشرح خطايا التغريب التي عصفت بالطالب الجامعي وأثرت على مصيره ومستقبله.

ماذا يريد الكاتب أن يصل إليه؟

بالطبع هذه رواية عالمية مترجمة حاول الكاتب أن يعرض المعتقدات الدينية في صورة مكون رئيسي للهوية سواء هوية الفرد أو الجماعة ولا يعتبر أمراً شخصياً، يتأثر بأمر الحداثة ولن يجد الناس خلاصهم من الذنوب إلا بالعودة إلى الدين، كما أن الرواية توضح الثقافة الفكرية التي يتبناها الكاتب نفسه، وهي رفض الثقافة الليبرالية والمبادئ الخاصة بها، ويكره أن تطبق هذه الثقافة داخل مجتمعه، كما أن الرواية الروسية تستعرض الرؤية الفكرية التي يتبناها الروس تجاه مؤيدي الفكر الرأسمالي والرأسمالية نفسها وتبين مدى تفكك العلاقات بين أنصار المعسكر الغربي بقيادة أمريكا وأنصار المعسكر الشرقي بقيادة روسيا، وأن روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي تحاول جاهدة العودة إلى ما كانت عليه واستعادة كرامتها ومكانتها السابقة، وهنا نكون قد انتهينا من شرح المعاني العميقة التي تشملها رواية الجريمة والعقاب لفيودور دوستويفيسكي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!